أَرْض اللُبَان
آه يا عُمَان التَي هَوَاهَا يُظمِئ الملآن، ظامئٌ مِن الصَحرَاء شدَّ الرِحَال إليكِ فهَل لكِ مِن كَوثَرك أن تَرويه؟
لقَد كُنتِ نَجمَة سقَطت عَرَضًا فِي جُعبَة القَدر.
شَاءَ الله صاحب المَشيئَة بَعدَ سنين طِوال مِن المُكُوث في مَدينتي أن تُوجّه البُوصَلة إليكِ.
جفَاني النَوم ولبستُ السَهد لمّا قَرُبَ أوانُ رحيلي إليكِ. لم أبِت أَعرِف مِنكِ غَير اسمك وموقعك عَلى خارِطَة الوَطَن العَربي، لكِن حَبَانِي الله أن أُحبَّك وأنتَظِر بعِشق الوَلهَان في المَطار رحلتَي صوبَك.
*
أدرتُ عينِي إليكِ علّنِي أرَى طيفَكِ لكن لم أَرَ غَيرَ السُحُب التي حجبتكِ عنِّي.
في السادِسَة صَبَاحًا هَبطَت الطائرَة تدريجيًا مُعلنين أنّ الهُبوط على أرضِ مَسقط باتَ قريبًا.
رأيتُهَا مِن الأعلى عَروسَةً بفستانٍ ناصِع البيَاض تحتَ أشعَّة الشَمس المُشرِقَة، المَدينَة بيضَاء بالكَامِل!
بيوتُها.. مبانيها.. مساجِدُهَا.. أثوابُ رِجالِهَا.. رمال شواطئها.. وحتى تِلك القلوب في أكباد ساكنيها!
*
الثالثة فجرًا - قُبيل الإقلاع.
لفَت انتباهَي رَجلٌ كبير بالسِن تَرى في سيمَاء وجهه البشاشة يرتَدي عُمامَة بُنية ملفوفة على رأسِه عليها بعضُ الزخارِف البَديعَة رَطن مَعَ أحدهِم بُلغة عربية بهِا إمالة خفيفَة ووتيرة حديث تمتَازُ بالسُرعَة حتّى لا أكَادُ أفهَم كلامَه، خُيِّل إلي أن رَجُلاً مِن العَصر الأندلسِي مَرَّ مُصادَفةً من هُنا، لطالمَا أحببتُ العُمَامَة؛ فكثيرًا ما دلّت على الوقَار والزُهدِ بالحياة، واحتقار الحياة الدُّنيا فَقَدِيمًا العُمَامَة التي تُرتَدى هي إنمَا كَفَنُ الإنسَان بعدَ مَوتِه، وكَان يَرتديهَا أهلُ العِلم خاصةً، وتدريجيًا لم يعَد كثير من الشعوب المُسلمة ترتدي العُمَامة. فشعرت بالبَهجَة تغمرني وقُلتُ فِي نَفسي “لعلَّه مِن الأرضِ التي تنبت نبَاتًا حَسنًا، كأرضِ اليَمَن" لولا أنني سَمِعتُهُ يَقُول أنهُ عائدٌ إلى عُمَان وهوَ يتخذ مَجلسه قُربنَا، فازدَدتُ عَجبًا. فاليَوم الغَريب عنكِ والقَريبُ منكِ إلى مُزارك يأتونك، يحملون ذاتَ الودَاد وإن اختلَف عُمرُه وعَهدُه لكنَّه حُبٌ لم يَغبُر في أيٍّ منهُمَا، لكِن أحدُهُمَا اندفَعَ إليكِ سِراعًا لأن داء القَلب لا يبرؤه إلاّ حَرَارَة الوَصل وكُنتُ أنَا ذاك.
وعندَمَا تبقَّى على الوصُول إلى عاصِمة السَلطنَة بِضعَة أميَال فَاضَ نُورُ الشَمسِ في عليَاء السمَاء لأرَى أَجْمَل شروق خلاَّب من نافِذة الطائرة، الشمس تكشِف عن أهْدَاب الصَّبَاح الناعِسة وتنثر من وهجِهَا شعاعًا قَشَعَ عباءة الظلام وكِشَفَ حُسن زُرقَة السَّمَاء.
السادسة صباحًا - أرضِ مسقَط.
ملأتُ مُخيلتي بكيفَ بَدوتِ عندمَا خَطا عليكِ الذين سَبقُونَا والأقدَمين، مالذي خَطَرَ فِي ذِهن أول الواصلين إليكِ ليُسميكِ بهذا الاسم؟ أكُنتِ مَهوَى؟ ألم تَكوني لهُ سَلوَى؟ قيل أنك سُميتِ “مجان” استنادًا لنقوش السومرين -الذين كانوا يطلبونك للتجارة -في مدينة الرافدين، وأنَّكِ سُميتِ “مَسكَت” لأن الصحَابة عندمَا وصَلوا إلى أرضكِ سَكتُوا وتمَعنوا فيكِ (فمِثلُكِ لِجمَال أوديتِك وأنهارِكِ يُسكَت دهشَةً كيفَ خلقكِ الله) وأيًا ما يَكُن اسمُكِ فقد رَمَيت وفَقهت أنكِ بالنسبة لي كُنتِ حيثُ سَقطَ قلبِي فيكِ، وهأنَا في هَذه اللحظَة أستَذكَر عندمَا تخففتُ مِن الزَاد وتعيّن عَلي العَودة إلى الوَطن أنني عُدت بلا قلب، وقُبيل ارتحالي عنكِ تردّد صوتٌ مَا في جَوانحِي يَقُول وأنا أُولِّي عنكِ جِهَة الجَنُوب "باسمِ الله على تِلكَ المُضغَة حتِى تَبرُد مِن لوعَة الفِراق"
الخامسة مساءً - أرض مسقط.
وكَانَت مَسقَط عامِرَة ببيوتِ الله التي بُنيَت لِتُلقِي فِي نَفسِ مَن يَراهَا سِحرًا تجعَلهُ يتأملها كالمأخُوذ، في كُل حَجر أُقيم تارِيخٌ يُروِى ونُصوصٌ منقُوشَة تُقرأ، وَصَوتُ من يُنَادِي للصلاة ساحِر كأنمَا أُوتِي مِزمَارًا مِن مَزامِير آلِ داوود. لن تَرى مَسجِدًا بحجَارة قديمَة وبِنَاء مُتهَالِك، ولن تَجِد مساجِد لا يَدخُلهَ إلاّ أصحَاب مِلل خاصَة دونَ غيرهِم، جميعهم يُصلون سواسية في مَسجِد واحِد بِغض النظر عن اختلافِ مَذاهِبهم.
وجِبَال مَسقَط الراسية حانيِة تَضم في أحضَانِهَا قُرىً بيضَاء بأكمَلِها وحَارات، وبينَهم أشجَار نخيل طويلة ظليلة، ويا هَنَاء مَن يعيش قُربَهَا، وتصاميم بيُوت مسقَط مُتشبثة بالعُمرَان العُمَاني الفَريد الذي لا يُشَابِه تصامِيم البُيوت الغربيّة بأية صُورَة ولا يُقَاربها، وفِي المَاضي العَريق لم تُبنَى البُيُوت العُمَانية لِتَكُون مِسَاحَة تُؤوي ساكنيها فحسب بل لتصنَع ذكريَات طويلة الأمَد لصغارها، فَتُوجَد الرُدهَات الفسيحَة والأروقَة ومساحَات خَضراء يلعَب بهَا الصبيان والفتيات من العائلة الكبيرة الممتدة، إذ كَانوا يعيشون معًا في بيوت كبيرة مُقَسمَة تسعهم وتضمن الخصوصية والأريحية لنسائهم، لكأنما قديمًا كانت كل عائلة تعيش في قلاعها الخاصة.
السَادِسَة والرُّبع مَساءً – مَسقَط (ولايَة مَطرَح)
مَطْرَح إن رأيتَهَا مَلكَت عليك حشاشَتك، حاشَا لله ما هَذِه مِن امتدَادِك يا مَسقَط؟! افتَتنتُ بِهَا حتى والليل أرخَى سدُولهُ وغطَّاهَا بحِجَابٍ منه مُخفيًا مفاتِنهَا فَكَيفَ إذَا بَزَغَ فِيكِ الصُبح وانجَلى؟! عَبَقُ التُراث البَديع كَان يَفوح من جنبَاتِها، جبالٌ شامِخَة تُحيطُهَا وعَليهَا بُنيَت قلعَة مُتألقة تُطِل على بَحيرة رقراقة ترسُو فيها سفينَة عِملاقَة. الجُزءُ الأمتَع عندمَا تَسير حذاء البُحيرَة التي توشوش في صفحَتِها نُجومَ السمَاء وبدر الدُجَى، ثُم تَتجِه إلى سُوقِ مَطرَح، يستَقبِلُكَ مَدخَل بِه قُبَّة زُجاجِيّة كُتِب على واجهته بأحرُف عَربيَّة "سُوق مَطرَح" عندمَا تَدخُل بوابتهَا حذاري أن تُصبِح رَهينًا لفِتنة أسواقِها. الأَسوَاق الشعبيَّة دومًا تحمِلك إلى مَدخَل إلى الماضِي. يعتريني إحساس رائع وأنَا أحث الخُطَا نحوَ المَدخَل، إنهُ ألذ من الشُعُور الذي يَعتريني عندمَا أَزُور سُوق "القيصرية" التي تشتهِر بِهِ مَدينتي، فقَد اعتَدت التَردُد عَليه وأصبَح ضِمن دائِرة العادِية، أمَا دُخُول سُوق مَطرح وتجَاوز مَدخَله أشعَرَنِي أنني عُدتُ بالزَمَن إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضِي، إنني أتوغل نَحوَ كُل ما هُوَ عُمَاني تُراثِي قَدِيم. رائحَة اللُبَان تعبَق وأُناسٌ بألبِسَة زاهِدة مُتواضِعة تمشي بينمَا تتدَلَّى أمَام واجِهَات المحال المنسُوجَات العُمانية مِن حقائِب ومحَافِظ، ومنسُوجَات الخيش، وخناجِر (الجنبية)، وتُعرَض المباخِر (المجَامِر)، ركوَات القَهوَة ودِلالها وصُحُون تِذكَارِية نُقِش فيها اسم السلطَنة، وزَهرِيَّات خزفيَّة رُسِم عليهَا رُسومَات فارسية، وأواني مِن النُحَاس تِلك التي تحسَب أنَّهَا بَقايَا مِمَّا تَرَكَهُ آخِر مُستَعمِر بُرتُغَالي في القرون التي خَلَت.
تَدخُل مِن زِقَاق وتخرُج مِن آخَر مَعَ السائرين فيفيضُ السُوق أكثَر بالنَاس فَيضًا ومعَ أن الرُطوبَة خانقة والحَر شَديد لم يَجِد أحدهُم بُدًّا أن يتجَوَل ويكتَشِف ما يَعرضُهُ الباعَة، الباعَة الذين هُم أظرَف ما في السُوق فلهُم مهَارات طريفَة بجَذب الزبائن إلى محالهم. كَانَ "رِجال الطَاقِيات" كمَا أسميتِهُم يكتَسِحُون المَمرَّات، الطاقِيات الخَجُولة البيضَاء ذات التطريزات الباهِتة غير الواضحِة التي يرتدِيهَا أبنَاء الخَليج ويخبئونَهَا تَحت "الشمَاغ" كَانت لدَى العمَانيين رَمز زَهو وبساطَة وتواضُع، وهي مطرزة بأشكَال أخَّاذَة مُستوحَاة من الطبيعَة أو النُقُوش الإسلامية ومُطَّعمَة بألوَان زاهِية جِدًا وجذّابَة. بِفَضل الطاقيَّة (الكمة/ القحفيّة) العُمَانية أحبَبتُ الطاقِية التي كُنتُ أرَى أن ارتدَاء أصحابَها لهَا في الخَليج عَديم الجَدوى غير تثبيت الغترة، لكِنهَا لم تَحمِل أي مَظهَر جمَالي أَنيق كمَا حمَلتها الطاقِية العُمانية. لم يُخبِرنِي أَحَد أن التُرَاثُ في عُمَان أيضًا سيّار!
اليوم الأخير - الخامسة مساءً ( منطقة القرم)
"شاطئ القرم"
هَل سَبقَ لكَ وأن رأيتَ حمَامات الحَرم التي في قلبِهَا أُلفةٌ واستكنَان للمكَان وهي تَطُوف وتلتقط ما استطاعَت من الحَبْ؟ هكذَا كَانَ الحَال في شاطئ القَرم!!
ظللتُ أُراقِب تينك الوادِعَات وهنَّ يأكُلن من رزقهن في شرود، وقلبي يضجُّ برؤيتِهن بالسلام وهوَ يترنَّم بسعادة غامِرَة "حمَامٌ حمـــام!!"
لكِن طِفلًا بوجه وضّاء رَكَض بينَهم وأخافَهُم، فتفرقوا إلى سعَة المَدى، وحفيف أجنحتِهَا وهفيفها كَان في الأُذن مِثل النغم..
ثُمَّ عَادت مُجدًدا وبقدميها القصيرتين مَشت على الأرض..
فتبعتُهَا وأنا مملوءة بالسرور، أعَادت لي ذكراي عندمَا كُنتُ في الصغر أُلاحِق طير الحَرم!
في القرم يجتَمِع عشقَان.. البَحر والحمَام! ألم أَقُل أن مَسقَط لن تُبقي لي إلاّ رُبعًا مِن القلب؟!!
----
مشيتُ على رِمَال الشاطئ، رمال شواطئ مسقَط شديدة البيَاض والنظَافة، ترَى بحرًا حقيقيًا لا شِبه بَحر.. تنغرس خلف الشاطئ أشجار من نَخيل مائِل بسيقَان نحيلة بيضاء يَمُدُّ أوراقَه الرفيعة التي تتمايل معَ نسائم الهوَاء.. وَجدتُ ريحًا طيبًا مِن منطقَتي ها هُنَا، النَخلُ كمَا أسميه هُوَ سَيِّدُ الشَجر، وكَانت دياري تُسمَّى "واحَة النخيل" لكثرَة ما ينبت النَخل فيهَا، لولا أنَّ نخيل عُمَان لا يشبِه الذي اعتدتُ على رؤيته.. إنَّهُ بَديع!
آخِر غروب في مَسقَط على البَحر.. إدرَاك أنهُ لم يبقَ على الرحيل إلاّ القليل كَان عسيرًا، تآلفتُ معَ هذه المدينَة رُغمَ أنني غريبة عنها ولستَ مِنهَا ولا فيهَا.. بالغَد نرتَحِل عنهَا لتكوُن ذِكرى.. وأنَا.. روحٌ مِن فرطِ الحُزن تتشَّظى.. أوَّاهُ على غريبٍ فيكِ صار غريبًا منكِ.
والنَفسُ الحيرَى تحَارُ: من ذَا الذي سيطفِئ ما في قلبِهَا من كمَدٍ؟
والحُزنُ يُطبِق لفراقِ مسقَط عليهِ كالجُلمُدِ؟
*
مُذكرات مُتفرقة عن مدينَة مسقَط.
-ضَوْء.